يجمع كل من تابع أشغال ومناقشات الدورة الثامنة الأخيرة للجنة المركزية لحزب التقدم والإشتراكية، أو قرأ بجدية وإمعان قراراتها ومختلف الوثائق التي جرى تداولها طيلة يومين، أن هذا الموعد الحزبي سيكون فاصلا بين مرحلتين، وسيكون له ما بعده داخل الحزب التقدمي وعلى صعيد حضوره الميداني والإشعاعي.
الوثيقة المركزية الصادرة عن إجتماع”برلمان الحزب”عقب حوار داخلي عميق وواسع، والتي سُميت:”تجذر”، تلخص التطلع العام للحزب كي ينجح في بلورة وتحقيق إنبعاث تنظيمي وعملي.
“تجذر” تحيل، في المعنى وفِي المضامين وفِي الأفق، على الإنشغال الدائم للحزب بمسألة توسيع صفوفه وإحكام تنظيمه وتمتين جاذبيته وسط المجتمع…
“تجذر”هي الدليل على أن الحزب، الذي يزيد عمره اليوم عن73 سنة، لم يختر يوما أن يكون مجرد حلقة تنظير منزوية داخل مقر أو مكتب تصنع الكلام والخبرة وتوزعهما على من يطلبهما، وهو أيضا، مُذ كان، لم يشأ البقاء تيارا منعزلا على هامش الصراع الديموقراطي في البلاد، ولهذا عمل باستمرار من أجل”الحزب الجماهيري”، وكرس إنفتاحا تنظيميا وإشعاعيا مرتبطا بشكل جدلي بالإصرار على ثوابت هويته اليسارية التقدمية والحداثية، ثم رفع شعار:”الوفاء والتجديد”ضمن ذات الأفق، وقبل ذلك بعقود كان قد تميز بإبداع أطروحة فكرية وسياسية متكاملة هي:”الثورة الوطنية الديموقراطية”، ولم تكن نفسها خالية من مبحث يختص بالتنظيم وببناء الحزب، وفِي مختلف هذه المحطات التاريخية والسياسية بتحدياتها وسياقاتها المتباينة، وخلال المؤتمرات الوطنية والندوات الدراسية، إجتهد الحزب في تجريب كثير أدوات وأساليب ومنهجيات مقصديتها العامة جميعها هي أن يتكرس الحزب كقوة سياسية حقيقية في البلاد ووسط الناس وداخل المؤسسات…
إن هذه الحيوية الفكرية والعملية هي التي ترفع اليوم شعار:” تجذر”..
“تجذر”تعني أولا صيانة هوية الحزب تقدميا يساريا إشتراكيا بأفق بيئي، وفق المنصوص عليه ضمن قرارات مؤتمر الحزب.
“تجذر”تذكر أيضا بنضال الحزب من أجل الدولة الوطنية الديموقراطية، أي المضمون الوطني المنتصر لوحدة البلاد وسيادتها، بالإضافة إلى امتلاكها مؤسسات ديموقراطية قوية، واقتصاد وطني متين ومتطور، وعدالة إجتماعية، فضلا عن مجتمع منفتح وقوي بقيم الديموقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان والحداثة والتقدم.
“تجذر”هي خارطة طريق ينكب جميع مناضلات ومناضلي الحزب اليوم على تنفيذها بغاية النهوض بالذات الحزبية وتجاوز مختلف اختلالاتها وتجليات قصور الأداء والسلوك والعلاقات بداخلها، وحتى يكون التنظيم الحزبي، داخليا وإشعاعيا، مجسدا ومستجيبا لقوة ووضوح الخط السياسي العام للحزب، وما تحقق له من إنتشار جغرافي عبر البلاد.
من المؤكد أن الهيكل الحزبي العام لم يرض بما حققه الحزب من نتائج خلال الإقتراع التشريعي الأخير، وجرى استعراض تفاصيل وسياقات كل ذلك أثناء مناقشات وورشات اللجنة المركزية في نهاية الأسبوع المنصرم، ومن المؤكد كذلك أن هذه الحصيلة الإنتخابية السلبية تدخلت في صنعها كذلك عوامل ليست جميعها متصلة بضعف أداء الحزب، ولكن الدورة الثامنة للجنة المركزية لحزب التقدم والإشتراكية جرى تخصيصها من البداية للإنكباب على أعطاب الذات ونقاط الضعف وسط التنظيم الحزبي، ثم جرى الإتفاق على صياغة خطة عمل للسنوات الأربع القادمة في أفق إنتخابات 2021، علما أن مؤتمرا وطنيا للحزب سيعقد في العام القادم ، وسيكون بدوره مناسبة لتقييم الخطوات الأولى في سياق تنفيذ الخطة المذكورة.
“تجذر”هي إبداع نظري وفكري وسياسي لحزب التقدم والإشتراكية قد يكون اليوم مفيدا أيضا لباقي القوى السياسية في سياق تجديد تأهيلها البنيوي العام، والسعي الجماعي لكي تعيد السياسة عندنا تملك جديتها ومتانة التنظيم بداخل الأطراف الحزبية المتنافسة، وعندما نشر الحزب للعموم مختلف أوراق عمل لجنته المركزية الأخيرة، وكل وثائقه وتقييماته الداخلية، فذلك من أجل جعل حياة الحزب وحواره الداخلي مشاعا بين الناس ومفتوحا على النقاش العمومي أيضا.
في مراحل متعددة كشف حزب التقدم والإشتراكية على قوة خطه السياسي العام ووضوحه، وأبرز حرصه”الجيني”على قراره المستقل، وأبدى في كل مواقفه ومقترحاته بعد نظر يقر به الجميع في الساحة الوطنية، ولكن هذه الإقناعية السياسية الواضحة وهذا التميز المبتعد عن الغوغائية يتطلبان اليوم قوة التنظيم وحيويته، وإحكام البناء الداخلي والمنظومة التواصلية، وهذا بالضبط هو الهدف والمعنى من…”تجذر”.
التجذر المتحدث عنه يروم تعزيز الإرتباط أكثر بالناس وبنضالات شعبنا، والحضور الدائم في كل تعبيرات المجتمع…
التجذر نفسه يعني تقوية الإنغراس في المحيط المجتمعي، والعمل لكي تصير أفكار التقدم والحداثة واليساروالإنفتاح والمساواة هي المهيمنة داخل المجتمع.
التجذر هو الربط الخلاق والمتفاعل بين دور الحزب من داخل المؤسسات وفِي صنع السياسات العمومية وتحقيق البرامج وتدبير الشأن العمومي وخدمة البلاد والمجتمع بشكل عملي وملموس، وبين الإرتباط النضالي بشعبنا وتملك قضاياه بشكل أكبر والدفاع عنها والإسهام في تعبئته الوطنية وتأطيره السياسي والثقافي.
“تجذر”هي كذلك وأساسا توجه إستراتيجي عام ومتكامل وجامع لكل المهمات المذكورة، وليست مجرد إجراءات تنظيمية أو مسطرية معلقة في الهواء بلا روح أو محتوى سياسي.
“تجذر”هي التوجه نحو بناء قوة الحزب وتصحيح أخطاء المقاربات التنظيمية والسلوكية، ضمن الحرص على وضوح الخط السياسي العام.
بقلم محتات الرقاص
بيان اليوم