السيد الوزير،
السيدات والسادة المستشارون،
يشرفني أن أدلي ببعض الملاحظات العامة بخصوص بعض الجوانب التي أثارتها مناقشة الميزانية الفرعية لوزارة العدل.
فلقد تطرق السيد وزير العدل في كلمته للخطوط العريضة والتوجهات الكبرى لمشروع الميزانية الفرعية الخاصة بالقطاع في ست محاور أساسية.
ولا بد هنا من التنويه بالجهد المبذول، من خلال تجويد مجموعة من مشاريع القوانين، وعلى رأسها التنظيم القضائي، والذي تغيرت معالمه عن سابقته.
ومن منطلق أن كل إصلاح تسعى بلادنا لتحقيقه من أجل مؤسسات قوية إلا ويوجد إصلاح منظومة العدالة في قلبه. ولكون صحة منظومة العدالة ترهن بشدة صحة النظام السياسي والمجتمعي ككل، وتعتبر إحدى دعائم استقرار الدولة ونمائها، فإن مناقشة ميزانية وزارة العدل ذات أهمية قصوى في البناء المؤسساتي للدولة.
وما انفكت الخطب والرسائل الملكية مذكرة بما يهدف إلى الاستمرار في دعم استقلال السلطة القضائية، وترسيخ استقلال القضاء وتخليقه وعصرنته، وتحقيق فعاليته ونجاعته وتحديث الإدارة القضائية.
أكيد اليوم أن تولي اختصاص وضع معالم السياسة الجنائية من مسؤولية وزارة العدل، والبرلمان يتولى ترسيخها بنصوص قانونية، فيما تسند مهمة تنفيذها لرئاسة النيابة العامة، حيث أن تدبير هذا القطاع أصبح ثلاثي التسيير بين السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، والبرلمان ورئاسة النيابة العامة.
مما سيضع منظومة العدالة أمام رهانات تنظيمية وتشريعية عديدة، عليها أن تكون في مستوى رفعها. كما أن للبرلمان كذلك دور في وضع السياسة الجنائية بناء على اجتهاد المجلس الدستوري، والذي اعتبرها ضمن مجال التشريع.
1 – مراجعة وتحيين السياسة الجنائية الوطنية
إن ضمان القواعد المعيارية للمحاكمة العادلة والحرص على تحقيق التوازن بين سلطة الاتهام والمتابعة وحقوق الدفاع من أسس تحيين ومراجعة السياسة الجنائية الوطنية.
ولا بد من الحرص الجماعي على الإسراع بالمصادقة على مجموعة من القوانين، كمدخل لإيجاد الحلول العملية لكثير من الإشكالات المؤثرة على السير السليم للعدالة الجنائية
وفي هذا الاتجاه، يتعين إعادة النظر في مجموعة من القوانين والإسراع بإخراج أخرى إلى الوجود، ومن ضمنها:
مشروع القانون الجنائي ومشروع المسطرة الجنائية، وهي مشاريع تنتظر الإسراع بإحالتها على البرلمان منذ مدة. وهنا لا بد من وضع تصور حول آجال مناقشة هذه المشاريع، في ظل غياب مخطط تشريعي للحكومة لتفادي هدر الزمن التشريعي دون طائل.
مدونة الأسرة: التي تستدعي من جهتها مراجعة شاملة من خلال ضمان تأطير قانوني جيد لها، ينطلق من وضع المرأة ويراعي المصلحة الفضلى للطفل ويجعل مكونات الأسرة في صلب أي إصلاح مع ضرورة اهتمام الوزارة بإشكاليات الحضانة والتطليق والكفالة والنفقة، وغيرها… كمداخل للمراجعة.
المرسوم المنظم لاختصاصات وزارة العدل، وهو ما يتفرع عن نقل جزء من اختصاصات وزارة العدل لرئاسة النيابة العامة، مع ما يقتضيه من تكييف للمرسوم المنظم لاختصاصات الوزارة.
قانون التفتيش القضائي: في ظل غياب الوضعية القانونية للمفتشين القضائيين، بعد تعيين المفتش العام منذ سنتين بدون سند قانوني أو اختصاصات محددة.
القانون المنظم لمهنة المحاماة: لضمان قيام المحامي بدوره في المحاكمة العادلة وضمان التوازن في حقوق الدفاع.
القانون المنظم للموثقين: بالدعوة إلى إعادة النظر في القانون المنظم للمهنة والحرص أكثر على اتخاذ إجراءات حمائية لودائع الزبناء.
كما يتعين الإسراع بوضع ومراجعة عدد هام من القوانين باستحضار المرجعية الدستورية، ومضامين ميثاق إصلاح منظومة العدالة، والمعايير الدولية، ويتعلق الآمر ب:
القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية قانون؛
قانون المسطرة المدنية
القانون المتعلق بالطب الشرعي؛
وضع قانون متكامل حول قانون مكافحة جميع أشكال العنف ضد الأطفال.
2 – ترسيـخ الفعالية في الإدارة القضائية.
لا يمكن اختزال السياسة الجنائية في وضع القوانين فحسب، بل إن جوهر الإشكاليات تكمن في الواقع في تنزيل تلك السياسة.
والوزارة في تأهيلها وتحديثها للإدارة القضائية، أعلنت عن الشروع في مشروع كبير يهدف إلى إقامة إدارة قضائية احترافية مؤهلة قائمة على اللاتمركز الإداري والمالي، وإرساء مقومات المحكمة الرقمية وتحديث الخدمات القضائية والرفع من مستوى البنية التحتية للمحاكم، مع الانفتاح على المحيط الخارجي وتعزيز التواصل مع المواطن وكل الفعاليات المهتمة بشؤون العدالة،
وبحكم أن هذه السنة ستشكل بداية العمل بمشروع قانون التنظيم القضائي الذي يضبط العلاقة بين السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة والوزارة المكلفة بالعدل داخل المحاكم، ويحدد اختصاصات الوزارة في مجال تدبير الإدارة القضائية، فأمام قطاع العدالة رهان حكاماتي ومنعطف تدبيري يتعين كسبه وحسن تدبيره.
فيحق اليوم التساؤل عن مدى نجاح تجربة استقلال السلطة القضائية، وما مدى قدرة هذه التجربة الجديدة في ضمان حقوق وحريات وأمن المتقاضين.
وقد يجد هذا الاستفسار من الإرهاصات المثيرة للجدل، ما يوحي إلى بعض الإشكاليات المطروحة بعد استقلال السلطة القضائية، وضمنها: التكييف القانوني للنيابة العامة في قضية معينة لقانون الاتجار في البشر الذي تمت المصادقة عليه بالبرلمان، والذي لم يكن تكييفا ينسجم مع إرادة المشرع الحقيقية.
وهو ما يقتضي التعامل مستقبلا بحذر شديد عند صياغة القوانين، حتى لا يترك المجال مفتوحا للتفسير والتأويل في اتجاه يضر بحقوق وحريات المواطنين.
كما تجدر الإشارة إلى إصدار أحكام مجحفة، نددت بها العديد من المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، وصلت إلى 20 سنة في حق شباب احتجوا من أجل مطالب اجتماعية مشروعة.
ولا بد هنا من التشديد على ضرورة الحفاظ على صورة المغرب الإيجابية في مجال استقلال السلطة القضائية، وعدم التضحية بتراكمات إيجابية، على مدى عقود من الزمن، وعدم السماح بالانزلاقات التي قد تسيء إلى صورة منظومة العدالة وللبلد ككل.
وبخصوص نجاعة الأداء لقانون المالية لسنة 2019، لا بد من الإشادة بالمشروع الذي جاء أكثر تفصيلا ودقة مقارنة مع سابقيه.
فالبرنامج المرتبط بتعزيز الحقوق والحريات، والذي يتضمن حماية حقوق المعتقلين والاعتقال الاحتياطي، حاول الانسجام والانضباط مع القانون التنظيمي للمالية، فيما يتعلق ببرامج الميزانية على أساس ثلاث سنوات، مع الدعوة إلى تخصيص مبالغ لترشيد الاعتقال الاحتياطي ومراقبة أماكن الاعتقال من خلال توفير الوسائل المادية واللوجيستيكية اللآزمة وإشراك الجمعيات الحقوقية الغير الحكومية في تجويد منظومة المراقبة.
وبخصوص نسبة الاستجابة لطلبات الخبرة الطبية لا بد من التساؤل حول نسبة استجابة النيابة العامة للطلبات القضائية التي تم توجيهها للخبرة الطبية في ادعاءات ومزاعم التعذيب. كما يتعين تدقيق المؤشرات التي تهم أماكن الاعتقال وحماية المعتقلين وإدراج تفاصيلها في مشاريع ميزانية السنوات المقبلة.
3 – دعم المساواة بين الجنسين وتكافئ الفرص
بخصوص دعم المساواة بين الجنسين وتكافئ الفرص، فلا بد من الإقرار بأن الطريق ما زال طويلا، وأن مؤشرات التكوين والتأهيل وتولي مناصب المسؤولية ونسبة النساء في القطاع تكاد تكون ضعيفة.
ويجب إقرار مؤشر تبوإ النساء لمناصب المسؤولية بهدف مراقبة مدى التطور والتمييز الإيجابي، وفقا لما ينص عليه الفصل 19 من الدستور، فيما يخص تولي النساء لمراكز المسؤولية، خصوصا وأن البنية البشرية لوزارة العدل تتسم بضعف تولي النساء للمسؤوليات، خصوصا على مستوى المحاكم.
4 – تعزيز النجاعة القضائية
لا بد هنا من الإشادة بالتحول الرقمي الذي مكن من التوفر على معطيات ومؤشرات كمية وتتبع الولوج إلى الموقع الالكتروني “عدالة” مع ضرورة اعتماد مؤشر نوعي لتقييم البرامج الالكترونية التي تخصصها وزارة العدل مثل السجل العدلي وغيره من البرامج المرتبطة بهذا المجال.
كما أن تحقيق هدف المحكمة الرقمية يبقى من بين أحد أهم الأوراش في إطار مسار الإصلاح التنظيمي للقطاع، وأن الاتجاه نحو مزيد من الرقمنة سيساهم في توحيد العمل بين مختلف المحاكم وإضفاء فعالية وسرعة في الأداء على القطاع. كما سيساهم في دعم شفافية عمل الإدارة وتطوير مبدإ الحكامة الجيدة. لكن هذا رهين بالقضاء على الأمية الرقمية في القطاع.
ونتمنى أن يكون مشروع المخطط المديري للمعلوميات الذي هو في طور التنفيذ مدخلا لتحسين وتجويد الأداء، خصوصا في مجال تواصل المحاكم مع محيطها.
5 – الرفع من مستوى البنية التحتية للمحاكم
رغم بعض التعثر على مستوى بناء المحاكم، فلا بد الإشادة عموما بالمجهودات التي تبذلها الوزارة على مستوى البنية التحتية للمحاكم، مع المطالبة بضرورة بذل المزيد من الجهد على هذا المستوى، خصوصا وأن الوزارة التزمت برسم سنة 2018 ببناء 83 محكمة جديدة بكلفة إجمالية تفوق 3 ملايير درهم.
6 – تطوير أداء المهن القضائية والقانونية
إن تطوير وتخليق المهن القانونية والقضائية يعتبر مطلبا ملحا في هذه المحطة الإصلاحية، وهو ما يقتضي مراجعة أنظمتها القانونية لتساير المرجعية الدستورية.
وفي أفق جعل المهن القانونية والقضائية مواكبة للفلسفة الإصلاحية للقضاء والعدالة، يتعين العمل خاصة على الرفع من المستوى المهني والفكري لمهنة المحاماة عن طريق إحداث المعهد العالي للمحاماة، باعتباره فضاء سيتولى التكوين التأهيلي للمحامين المتمرنين، والاعتناء بالنساخ القضائيين من خلال الإنصات إلى مطالبهم وإيجاد حلول لوضعيتهم المهنية والاجتماعية.
ونستحسن فكرة إنشاء جامعة قضائية تتألف من المعهد العالي للقضاء، والمدرسة الوطنية لكتابة الضبط، والمدرسة المهنية لمهنة المحاماة، بجانب اقتراح الوزارة بشأن النساخ تسهيل عملية ولوجهم إلى كتابة الضبط وخطة العدالة لمن توافرت لديهم الشروط، والعمل على مرافقة الباقي بما يضمن الكرامة.
7 – تحسين التواصل مع المهن القضائية والقانونية
وتحسينا للتواصل مع المهن القضائية والقانونية، يتعين التسريع في إنجاز وتطوير منصة التبادل الالكتروني مع المحامين والموثقين والمفوضين القضائيين والخبراء … لتحسين التواصل خدمة للعدالة وتحسين الأداء، مع الدعوة إلى ضرورة تحديث المهن القضائية وإصلاح منظومتها القانونية، سواء في إطار شراكات أو إشراف من لدن الوزارة.
وفي إطار تطوير المنظومة القانونية تأتي مبادرة توسيع دائرة المستفيدين وتبسيط مسطرة الاستفادة من التسبيقات المالية لصندوق التكافل العائلي، لتقديم حلول بديلة وعملية للاشكاليات المرتبطة بتأخر وتعذر تنفيذ هذه النفقات لفائدة الأسر المعوزة.
كما تجدر الإشارة إلى مراجعة الكتاب الخامس من القانون رقم22.02 المتعلق بمدونة التجارة، تماشيا مع الجهود المبذولة لتطوير المقاولة المغربية، وتعزيز قدرتها على التنافسية والمساهمة في تشجيع الاستثمار والانخراط في التحولات الاقتصادية الهامة التي تشهدها بلادنا،
من جهة أخرى، يجب التنويه بمبادرة تعديل مقتضيات المادتين 66 و 460 من قانون المسطرة الجنائية بضمان تغذية الأشخاص الموضوعين تحت الحراسة النظرية والأحداث المحتفظ بهم على نفقة الدولة.
وبخصوص تصفية القضايا بالمحاكم وإشكاليات التبليغ يتعين الإسراع من وتيرتها، مراعاة لهدف المواطن الأساسي في اللجوء إلى القضاء، وهو الحصول على حكم في أجل معقول وتنفيذه كذلك في آجال معقولة.
ويحق التذكير هنا بأن على الدولة والجماعات الترابية أساسا تقديم النموذج في هذا المجال، من خلال عدم التأخر في تنفيذ الأحكام الصادرة في حقها.
8 – تعزيز دينامية التعاون الدولي
وفي مجال التعاون الدولي، لا بد من الإشادة بالدينامية المكثفة التي عرفها انفتاح القطاع على تجارب مماثلة في السنوات الأخيرة، والهادفة أساسا إلى تقوية الشراكة جنوب – جنوب، وتعزيز حضور المغرب على الساحة الإفريقية والعربية، مع تطوير العلاقات مع الشركاء التقليديين للمملكة سواء في أوروبا أو أمريكا وغيرها، حيث ارتكزت الإستراتيجية على التعريف بالتجربة المغربية المتفردة في مجال الإصلاح الدستوري، وإصلاح منظومة العدالة والمنظومة القانونية المؤطرة لمجال الحقوق والحريات، مع خلق جسور التعاون والتنسيق مع مختلف الشركاء الدوليين لتبادل الخبرات والاستفادة من التجارب المقارنة.
ولا بد أن يحظى موضوع مكافحة الفساد بأهمية خاصة، لأنه يرهن الأمن القانوني والقضائي، ويحد من فعالية الاستثمار، ويتعين اعتماد مقاربة أخلاقية مرتكزة على مجموعة من القيم والواجبات الضابطة لقواعد السلوك المهني، والهادفة إلى تملك مبادئ الأخلاقيات والسلوكات القويمة، ترسيخا للمسؤولية الأدبية والأخلاقية لكل الفاعلين في منظومة العدالة.
وفي ذلك، فليتنافس المتنافسون.