بقلم محتات الرقاص
يسجل كثير من المتابعين لشأننا السياسي الوطني أن الموقف الذي إتخده المكتب السياسي لحزب التقدم والإشتراكية وتضمنه بلاغ إجتماعه الإستثنائي الأخير عقب ما شهدته البلاد من تطورات في الأيام الأخيرة، حضي، بشكل عام، بإستقبال إيجابي وتنويه من لدن الطبقة السياسية والمحللين الجادين وجمهور واسع من المهتمين، وذلك عكس بعض الكتابات التي عرف عنها إنتظارها الدائم للحزب في(الدورة)، والتهجم عليه وعلى قيادته، بغض النظر عن كل الظرفيات أو السياقات، وعن أي شيء آخر، ومن ثم مثل هذه المواقف تبقى معروفة ومنتظرة وبلا نزاهة أو قيمة.
لقد سجل بلاغ المكتب السياسي للحزب إحترامه للقرار الملكي، وفي نفس الوقت، نوه بأداء وزرائه ونزاهتهم ووطنيتهم، ثم قرر عرض أمر إستمراره في التخالف الحكومي أو عدمه على إجتماع إستثنائي للجنة المركزية(الهيئة التقريرية التي كانت صوتت على قرار المشاركة في هذا التحالف)، وإذا لم تكن هذه هي عناوين ومحددات السلوك المؤسساتي الديموقراطي المطلوبة في مثل هذه المحطات، فما المطلوب القيام به غير هذا؟أحيانا يكون سهلا لوك الكلام والتنظير خلف الحاسوب ومن خارج أي إلتزام، لكن هناك ظرفيات دقيقة تفرض على حزب مسؤول صياغة موقف ذكي ورصين كما لو كان يمشي فوق حبل ويجب ألا تزيغ قدميه وألا يهوي إلى الأرض، وهذا ما يميز الفاعل السياسي المسؤول الذي يفكر في مصلحة البلاد، وفِي المستقبل، ويستحضر مختلف التفاصيل وموازين القوى وحيثيات الواقع كما هي على الأرض بلا شعبوية أو تحليق في السماء أو إفراط في حسابات الذات.لقد نجح بالضبط عدد من المحللين في إلتقاط هذا من بلاغ المكتب السياسي لحزب التقدم والإشتراكية، وأيضا من خلال قياس مواقف أطراف حزبية أخرى، أو إستحضار محطات مماثلة في التاريخ القريب والبعيد للبلاد، ثم خلصوا الى التنويه بذكاء الحزب التقدمي وإتزان موقفه.اليوم، لا بد أن ننتبه إلى أن ما يحيط بحقلنا السياسي الوطني منذ مدة لا يرتبط بأنانيات فردية أو بإصابة نفسيات أشخاص، ولكنه يهم أشياء أكثر جدية وعمقا…ولو كان الأمر منحصرا فقط في الأشخاص، لكان التقييم العام لأداء وسلوك وزراء حزب التقدم والإشتراكية كافيا وأكثر بلاغة في التعبير، فلا أحد يشك اليوم في نزاهتهم وصفاء ذمتهم، وهذا وحده ليس بسيطا أو بلا أهمية في معركة بلادنا ضد الفساد والريع ولوبيات الضغط.بلاغ وموقف حزب التقدم والإشتراكية، كما إنتبه الى ذلك بعض المحللين الموضوعيين، يجب، في الحقيقة، أن يمنح لطبقتنا السياسية ولكل الغيورين على مستقبل وطننا مساحة للنظر والتأمل والتفكير في القضايا الأكثر أهمية، أي تلك المتعلقة ببناء الديموقراطية وترسيخ المؤسسات وتطبيق مقتضيات الدستور والسعي المستمر لتطويرها.التنافس لا يكون في لوك الكلام، وفِي المزايدات والرفع الأرعن لسقوف المواقف، والإصرار المرضي على”قتل”حزب إستمر دائما يلح على إستقلالية مواقفه وقراراته، وعلى تميز هويته.يكفي اليوم أن نقارن ما تضمنه بلاغ المكتب السياسي لحزب التقدم والإشتراكية وما صدر عن هيئات وطنية أخرى، ويكفي كذلك أن نقيم مسار المواقف السياسية التي تبناها الحزب التقدمي ومواقف آخرين منذ إنتخابات سابع أكتوبر وما تلاها أو ما سبقها حتى، ونقارن أيضا الوضعيات والنتائج، فهذا التمرين من شأنه إجلاء ضباب الكثير من”التشيار”الذي صار هذه الأيام في مرتبة… الجهل.هناك من يروج، عمدا أو جهلا، لكلام لوبيات مختلفة كان يزعجها بإستمرار وزراء حزب التقدم والإشتراكية، وهناك من لا يقرأ أبعد من السطور ولا ينفذ إلى ما وراء الكلمات، وهناك كذلك من خرج من الجحر للتشفي وتوزيع السباب والشتائم تفريغا لعقد شخصية أو إنتهازية، وهناك من داس على كل شيء لينادي بالعودة إلى الخلف، وبلغة غريبة جدا هو لم يعد يولي أهمية لأي بناء مؤسساتي في البلاد، أو فصل للسلط، أو دستور، وبات”منظرا”متحمسا للنكوص والتراجع، ويضيف لذلك”تخراج لعينين”، وهذا الصنف هو من يجسد اليوم خطرا فعليا وحقيقيا على البلاد ومستقبلها.لقد عاش حزب التقدم والإشتراكية محنا أخرى في مراحل مختلفة، وبعضها كان أكثر صعوبة، وكان يتجاوزها دائما بوحدة صفوفه، وبقدرته على التركيز على الأهم وعلى القضايا الرئيسية، وبإستحضاره لمصلحة البلاد أولا، أي أنه يعبر الصعاب بالوحدة، والإنتباه الجماعي، وبتمثل سلوك المناضلين الحقيقيين، وهذا ما يميز الحزب عن قوى أخرى.أما من يسعى هذه الأيام لجر الحزب بكامله لتحريف النقاش المطلوب، وتحويله من قضايا البلاد ومستقبلها إلى مجرد شأن تنظيمي داخلي أو إفتعال حسابات حزبية لا توجد سوى في مخيلات وعقول من يروج لها، فهو أخطأ العنوان، ويمارس لعبة وإستهدافا لن ينجحا مع حزب مثل التقدم والإشتراكية.الحزب اليوم، ينشغل، كما كان دائما، بالمصلحة العليا لبلادنا وشعبنا، وبالمستقبل الديموقراطي للمغرب، ويحرص على السير في الإتجاه الذي يعبر عن هذا الإختيار المبدئي ويكفله، وذلك بكل رصانة ومسؤولية وغيرة على البلاد.أما المهمات التنظيمية المتصلة بالحزب وحياته الداخلية، فهذا شأن آخر ولا يهم سوى المناضلات والمناضلين المرتبطين بحزبهم، والمنخرطين في مسارات تطويره وبنائه، وجميع الأعضاء والهياكل الحزبية منكبون منذ مدة على إعداد مؤتمرهم الوطني العاشر، كما دأبوا على ذلك دائما، بكل جدية وعمق، وبإصرار جماعي على وحدتهم الداخلية وإستقلالية قراراتهم، وعلى صيانة حزبهم وحريتهم.