تدخل المستشار عدي شجري باسم مستشاري حزب التقدم و الاشتراكية في المناقشة العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2020 بمجلس المستشارين

الخميس 05 دجنبر 2019

السيد الرئيس؛
السيد وزير المالية والاقتصاد وإصلاح الإدارة؛
السيدات والسادة المستشارون؛

باسم مستشاري حزب التقدم و الاشتراكية، أساهم في هذه المناقشة العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2020 ، من موقع المعارضة الوطنية التقدمية، بعد أن حاولنا إقناع الأطراف الأخرى، و لم نتمكن من ذلك، بضرورة مراجعة تدبير الجهاز التنفيذي و إرساء سياسات عمومية جريئة لمواجهة الوضع المتأزم في بلادنا على كل المستويات، سياسات قادرة على التجاوب مع طموحات شعبنا و متطلباته الملحة.

فبعد ثلاثة أسابيع من مناقشة ودراسة مشروع قانون المالية الذي أحيل على مجلسنا، وافقت على مضامينه وتعديلها من طرف مجلس النواب،  وهي مدة نال فيها المشروع حقه من المناقشة العميقة والصريحة، سواء من خلال أبوابه وبنوده أو من خلال مناقشة الميزانية الفرعية لكل قطاع وزاري،  انتهت بتقديم تعديلات من مختلف مكونات المجلس في جو يسوده الهدوء والاحترام والمقارعة بين وجهات النظر، في محاولة لتسهيل مأمورية الحكومة، في سعيها لنيل موافقة البرلمان على مشروع القانون المالي. 

ومع كل دخول سياسي جديد يتجدد السؤال حول ما هي أهم الرهانات المطروحة على الأجندة الوطنية، وهل سيترجم مشروع القانون المالي هذه الرهانات التنموية، ويقدم عنها بوادر أجوبة مقنعة، ويستجيب بالتالي لانتظارات المواطنين على مستويات عدة؟

السيد الرئيس،
نناقش مشروع قانون المالية في ظل تحد وطني كبير لصياغة نموذج تنموي جديد بعد عجز النموذج الحالي عن تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة واسعة من المواطنين : نموذج تنموي نطمح جميعا في أن يساهم في الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية.

فالكل يشهد بفشل وتجاوز النموذج التنموي الذي حكم البلاد منذ عقود،  وفي نفس الوقت لم نسمع من الحكومة، وبالخصوص من رئيسها، من خلال أجوبته على الأسئلة الشهرية المتعلقة بمناقشة السياسات العمومية،  إلا عبارات الإشادة بما تقوم به، ونجاح المشاريع التي أنجزتها وحسن التقائيتها في أهدافها، كأن لا وجود لأزمة أو خلل في النموذج التنموي القائم.و كنا ننتظر أن تفصح الحكومة عن أسباب فشل هذا المشروع، على غرار ما ورد في الخطب الملكية منذ سنتين وما هو متداول في أوساط الرأي العام.

غير أن الحكومة مستمرة في تأكيد نجاعة مقارباتها وحكامتها، وحسن تدبيرها، وهو ما يكون مفارقة كبيرة بين الواقع و الطموح.

السيد الرئيس

بالإضافة إلى الظرفية السياسية الوطنية المتسمة بالهشاشة والانحباس وضبابية الأفق، فإن مشروع القانون المالي سنة 2020 يأتي في سياق اقتصادي يتميز بالبطء وبالركود، كما يأتي في أعقاب المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات التي لم تعر الحكومة توصياتها ما يكفي من الاهتمام، ولم تترجمها إلى تدابير ملموسة على أرض الواقع، بجانب صعوبة واضطراب المجال الدولي والإقليمي والجهوي،  وهو ما يطرح على بلادنا رهانات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وبيئية، ترتبط أساسا بإبداع نموذج تنموي جديد، وباستكمال الأوراش التنموية الكبرى، وتنزيل القوانين التنظيمية، وإخراج قوانين منظمة للقطاعات الاجتماعية، وبلورة سياسة جبائية جريئة، بجانب إصلاح القوانين الانتخابية، ونحن على بعد أقل من سنتين من الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، … وغيرها.

فالقانون المالي ما هو إلا أداة لضبط النفقات والموارد المخصصة لتنفيذ السياسات العمومية، التي تشخصها القوانين والمراسيم التي صدرت لتنفيذها.  

إلا أن الملاحظ أن عددا كبيرا من تلك القوانين والمراسيم رغم أنها دخلت حيز التنفيذ،  إلا أنها ظلت عالقة لم تجد طريقا لها إلى التنفيذ، بسبب تجاهلها في القانون المالي الحالي كسابقيه.

وعموما، فالإجراءات التي يتضمنها مشروع قانون المالية لا تجيب عن المطالب المتنامية لمختلف الشرائح المجتمعية، مما يجعل مشروع القانون المالي الجديد فاقدا لروح المبادرة الخلاقة والجريئة ومفتقرا لرؤيا بعيدة الأمد ترتكز  على خطاب سياسي واضح وعلى عناصر تأطيرية للعمل الحكومي تجعله مقرونا بحس اجتماعي قوي وملموس.

السيد الرئيس؛

السيد وزير المالية والاقتصاد وإصلاح الإدارة؛

السيدات والسادة المستشارون؛

إذا كان لا بد من الاختصار الذي يفرضه علينا التوزيع الزمني للمداخلات، فتعريف مشروع القانون المالي 2020 يمكن اختزاله في كلمات جامعة هي :  »الخوف« و» اللآ عدل « و »الانتظار«: 

»الخوف« في غياب الثقة، و»الإحساس بالظلم« في غياب العدل والإنصاف ، و»الانتظارية« في غياب الشجاعة والمبادرة.

إن وضع مشروع قانون المالية 2020 في سياقه العام، يحيلنا على ظرفية وضعه بعد تعديل حكومي دعا إليه جلالة الملك في خطابه بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش، في تزامن مع إعلان جلالته عن تعيين لجنة خاصة لإعداد النموذج التنموي المأمول، وفيه دعوة صريحة إلى ثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد في القطاع العام: ثورة في التبسيط، وثورة في النجاعة، وثورة في التخليق.

كما أن فيه دعوة إلى مزيد من الجهد لرفع رهان العدالة الاجتماعية والمجالية  بهدف استكمال بنـاء مغرب » الأمل والمساواة« للجميع وتحسين ظروف عيش المواطنين.

وهو ما يعني القطع مع حالة الانتظار المصحوب باليأس من النموذج التنموي القائم في غياب بديل مقنع . 

الانتظارية، في غياب الشجاعة والمبادرة فالكل يستشعر بأن هناك حاجة ملحة إلى اتخاذ تدابير مستعجلة لإعادة هيكلة المجال السياسي وبنائه،  تجنبا للفراغ الذي لا تقبله الحياة السياسية، وذلك باتخاذ مبادرات جريئة وقوية، من خلال مشروع القانون المالي بهدف إعادة المصداقية للسياسة، وخلق ديناميكية تمكن من إشراك الجميع وفتح حوار عمومي مسؤول من أجل ضمان إقامة نموذج تنموي بديل،  إلا أن دار لقمان ما زالت على حالها مع الأسف، ولم نلمس أي قيمة مضافة للتعديل الحكومي الأخير، كما لا نلمس أي جديد في مشروع قانون المالية.

فالبطالة في تفاقم، والتعليم في تراجع متزايد، ومؤشرات التأخر الحاصل في التربية والتعليم صارخة، وهزالة الخدمات الصحية وانكماش قطاع الخدمات العمومية، وانهيار وتضعضع أوضاع الطبقة المتوسطة واضح للعيان. وكل هذا يفاقم من أزمة  »الثقة« ويؤججها.

وإذا استحضرنا مخاطر الجفاف التي هي على الأبواب بسبب تأخر التساقطات المطرية، والتقلبات المناخية التي تنذر بكوارث طبيعية، وارتباط المؤشرات العامة بسخاء السماء،  فإننا نرى أن من واجب الحكومة الخروج من وضع الانتظارية المقلقة، والتي تطوق عملها وتحبط أدائها، حتى تترك المجال للآمال وللاطمئنان، وليسود جو من الثقة المحفز  على المشاركة الشاملة للجميع.

وهو ما يعني كذلك أن تعلن الحكومة عن توجه عام انطلاقا من التوجيهات الملكية، وتعلن عن العناصر المؤطرة لعملها التنفيذي، وهو عنصر تعاقدي مؤسس لمشروع إصلاحي حقيقي، قد يعزز الثقة ويرفع من منسوبها. وهو ما لم تعتمده الحكومة الجديدة، وما لم نلمسه في مشروع القانون المالي هذا.

إن الدعوة الملكية إلى بنـاء مغرب » الأمل« و » المساواة « هي دعوة لزرع الثقة في النفوس، وبناء مغرب العدل والإنصاف، وبناء مناخ يعيد الثقة للمجتمع وللفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.

بوادر الخوف من المستقبل إن انخفاض منسوب الثقة والخوف من المستقبل يترجمه تغليب الهاجس الأمني على الهاجس الاجتماعي للميزانية. وهو ما نلمسه من مشروع القانون المالي  المغيب للجانب الاجتماعي، بحيث تستحوذ القطاعات ذات الطابع الأمني، الداخلي والخارجي، على ثلث الميزانية، فيما تذهب أكثر من 60 % من المناصب المحدثة لوزارة الداخلية، حيث رصدت لقطاع الأمن 77 مليار درهم، وجهت منها 31.6 مليار درهم للأمن الداخلي، و 45  مليار درهم للأمن الخارجي، فيما تم رصد 96 مليار درهم للميزانية المخصصة للدين العمومي.

وفي دعمه للجوانب الاجتماعية، خصص مشروع قانون المالية لسنة 2020 ما مجموعه 91 مليار درهم لقطاعات التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والصحة مجتمعة، بجانب إحداث 20 ألف منصب مالي (16.000 مـنصب لـقطاع الـتربية والـتكوين  و 4.000 منصب لقطاع الصحة). 

كما أن من مؤشرات ضعف الثقة عدم القدرة على تحفيز القطاع الخاص على توفير فرص الشغل وإنجاح الإقلاع الاقتصادي، واحتشام مبادرات القطاع البنكي وضعف مساهمته في دينامية تشجيع ريادة الأعمال، وصعوبة ولوج المُقاولات الصّغيرة جدّا، والصّغيرة والمتوسّطة إلى التمويل .

ولم نلاحظ للأسف أي بوادر تحسن بهذا الخصوص في مؤشرات مشروع القانون المالي 2020 .

ضعف منسوب الثقة ومن علامات ضعف منسوب الثقة أن مشروع قانون المالية 2020 لا يحتوي على تدابير » شاملة « لتحسين القدرة الشرائية للمواطنين. كما أن من التوصيات الرئيسية للمناظرة الوطنية الأخيرة حول الجبايات هي إعادة بناء الثقة بين إدارة المالية و دافعي الضرائب. 

وفي تقديرنا فإن لجوء الدولة إلى إعفاء مهربي الأموال مقابل إعادتها، يكرس»الإحساس بالظلم« في غياب »العدل«، إذ أن استمرار هذا الوضع، يعكس تسامح الدولة مع محتكري ثروة البلاد على حساب أوسع الطبقات الاجتماعية، مقابل الصرامة وعدم التسامح مع باقي فئات المجتمع. 

وهو ما يؤدي، إلى تفاقم الإحساس بالظلم لدى الطبقتين الوسطى والفقيرة.

ولا نظن أن هذا الهدف الأساسي لتطبيع العلاقة بين الإدارة الضريبية ودافعي الضرائب بتعزيز الشعور وتقوية الالتزام بأداء الضرائب، قد يتحقق في معزل عن تقوية عنصري » الثقة « و »العدالة «  في منظومتنا الجبائية والمالية ككل.

كما وفر مشروع قانون المالية العديد من التدابير لتشجيع الاستثمار وتسريع التصنيع ومعالجة ضعف النمو. لكن إصرار الحكومة على الإبقاء على بعض المواد الغير المتسقة والغير المنسجمة مع مطلب تعزيز الثقة قد يحد من فعالية التدابير الحكومية.

فاعتماد المادة 9 مثلا قد يؤثر في منسوب ثقة المستثمرين الوطنيين والدوليين في دولة تضع مؤسساتها في منأى من القانون، وتتملص من مسؤوليتها، إذا تعلق الأمر بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في حقها.

وهو لا يزعزع الثقة في الدولة فحسب، بل يمس كيانها، ولخير دليل على ذلك ما جاء في الكلمة التوجيهية لجلالة المغفور له الحسن الثاني في اجتماع بكبار رجال القضاء والمحاماة والعدول بالقصر الملكي بالرباط في 31 مارس 1982، حيث جاء على لسان جلالته:  ” إن مسؤولية التنفيذ هي على ما أعتقد أكبر المسؤوليات، فعدم التنفيذ و التماطل في التنفيذ يجر المرء إلى تفكير آخر هو انحلال الدولة، بل أصبحنا أمام انحلال الدولة وعدم التخوف منها وعدم احترام كلمة القاضي، ويعني هذا أنه لا يبقى أحد مطمئنا على سلامة القضاء ولا على نزاهته ولا على السرعة في التنفيذ” .

كما أن تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية النهائية فيه ظلم وتحامل وتطاول للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية. وهو تدبير مجحف وغير عادل وغير منصف. ويعتبر بقاء هذه المادة في مشروع القانون المالي، ضربا في العمق للنفس الاجتماعي الذي تروج له الحكومة في مشروعها هذا.

من جهة أخرى، نعتبر أن استمرار تسميم الأجواء السياسية وتأزيمها بسبب صراعات جانبية – تؤشر  عن حملة انتخابية سابقة للأوان بين مكونات الحكومة الحالية – يجعل البنية المالية العمومية هشة وغير قادرة على رفع رهان » الثقة« و»العدالة« و»الفعالية « في الأداء الاجتماعي للحكومة.

إننا بحاجة ماسة إلى نفس ديمقراطي جديد،و إلى تصفية الأجواء السياسة و إحداث الانفراج، لإعادة الثقة في العمل السياسي. وبلدنا بأمس الحاجة إلى مبادرات وسياسات 

عمومية جديدة و جريئة وناجعة لتحريك عجلة الاقتصاد الوطني و ضمان التوزيع العادل للثروات و تأمين شروط الكرامة لجميع المواطنات والمواطنين. وواضح أن مشروع قانون المالية لسنة 2020 بعيد عن هذه الأهداف الوطنية الكبرى.

السيد الرئيس ،

رغم كل مؤخذاتنا على هذا المشروع وعلى سياسة الحكومة عموما، فإننا نود التنويه بتجاوب السيد وزير المالية والاقتصاد وإصلاح الإدارة مع عدد من التعديلات التي اقترحناها. 

ونخص منها بالذكر مقترح إحداث حساب مرصد لأمور خصوصية للخزينة لدعم منظومة التربية والتكوين وآخر لتمويل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، مع تسجيل تأسفنا على عدم قبول مقترحنا بحذف المادة 9 المتعلقة بالحجز على ممتلكات الدولة ورفض اقتراحنا بفرض ضريبة على الثروة.

وإذ نسجل تجويد المشروع بعدد من تعديلات مجلس المستشارين، فإننا نعتبرها غير كافية لتجعل منه مشروعا يستجيب لأسئلة المرحلة ولطموحات الشعب، مما يجعلنا نعارضه و نصوت ضده.